فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (78- 81):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان، وتحملهم على الموافقة والإذعان، فيزول النزاع بحسن الاتباع، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام، قال عاطفًا على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر، فلقد أرسالناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة {رسلًا} أي بكثرة.
ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال: {من قبلك} أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به: {منهم من قصصنا} أي بما لنا من الإحاطة {عليك} أي أخبارهم وأخبار أممهم {ومنهم من لم نقصص} وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة {عليك} لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم {وما} أي أرسلناهم والحال أنه ما {كان لرسول} أصلًا {أن يأتي بآية} أي ملجئة أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون استعجالًا لاتباع قومه له، أو اقتراحًا من قومه عليه أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون له أو ينقادون، وصرف الكلام عن المظهر المشير إلى القهر إلى ما فيه- مع الإهانة- الإكرام فقال: {إلا بإذن الله} أي بأمره وتمكينه، فإن له الإحاطة بكل شيء، فلا يخرج شيء عن أمره، فإن لم يأذن في ذلك رضوا وسلموا وصبروا واحتبسوا، وإن أذن في شيء من ذلك من عذاب أو آية ملجئة أو غير ذلك جاءهم ما أذن فيه {فإذا جاء} وزاد الأمر عظمًا لمزيد الخوف والرجاء بالإظهار دون الإضمار فقال: {أمر الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا، وأمره ما توعد به من العذاب عند العناد بعد الإجابة إلى المقترح، ومن القيامة وما فيها، وتكرير الاسم الأعظم لتعظيم المقام باستحضار ما له من صفات الجلال والإكرام، ولثبات ما أراد ولزومه عبر عنه بالقضاء، فقال مشعرًا بصيغة المفعول بغاية السهولة: {قُضَي} أي بأمره على أيسر وجه وأسلهه {بالحق} أي الأمر الثابت الذي تقدم الوعد به وحكم بثبوته من إهلاك ناس وإنجاء آخرين أو إيمان قوم وكفر آخرين- وهذا كله هو الذي أجرى سبحانه سنته القديمة بثبوته، واما الفضل من الإمهال والتطول بالنعم فإنما هو قبل الإجابة إلى المقترحات، والدليل على أن هذا من مراد الآية ما يأتي من قوله: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} وما أشبهه {وخسر} أي هلك أو تحقق وتبين بالمشاهدة أنه خسر {هنالك} أي في ذلك الوقت العظيم بعظمة ما أنزلنا فيه، ظرف مكان استعير للزمان إيذانًا بغاية الثبات والتمكن في الخسارة تمكن الجالس {المبطلون} أي المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق، إما باقتراح الآيات مع إيتانهم بما يغنيهم عنها وتسميتهم له سحرًا أو بغير ذلك، إما بتيسرهم على الرجوع عما هم فيه من العناد من غير إذعان وإما الهلاك، وإما بإدحاض الحجج والحكم عليهم بالغلب ثم النار ولو بعد حين، ومن هذه الآية أخذ سبحانه في رد مقطع السورة على مطلعها، فهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} وما كان لرسول أن يأتي بآية إلى وجادلوا بالباطل و{أفلم يسيروا في الأرض} إلى {فأخذتهم فكيف كان عقاب} وهذا وما بعده مما اشتمل عليه من الحكمة والقدرة إلى الثلاث الآيات الأول.
ولما كان المبطلون ليسوا أشد ولا أقوى من بعض الحيوانات العجم، دل على ما أخبر به من نافذ نصرته فيهم بقوله مذكرًا لهم نعمته مستعطفًا إلى طاعته دالًا على التوحيد بعد تليينهم بالوعيد مظهرًا الاسم الجامع إشارة إلى أن هذه الآية من الدلالات لا يحصى: {الله} أي الملك الأعظم {الذي جعل لكم} لا غيره {الأنعام} أي الأزواج الثمانية بالتذليل والتسخير {لتركبوا منها} وهي الإبل مع قوتها ونفرتها، والتعبير باللام في الركوب مطلقًا ثم فيه مقيدًا ببلوغ الأماكن الشاسعة إشارة إلى أن ذلك هو المقصود منها بالذات، وهو الذي اقتضى تركيبها على ما هي عليه، فنشأ منه بقية المنافع فكانت تابعة.
ولما كان الاقتيات منها- في عظيم نفعه وكثرته وشهوته- بحيث لا يناسبه غيره، عد الغير عدمًا فقال تعالى: {منها} أي من الأنعام كلها {تأكلون} بتقديم الجار.
ولما كان التصرف فيها غير منضبط، أجمله بقوله: {ولكم فيها} أي كلها {منافع} أي كثيرة بغير ذلك في الدر والوبر والصوف وغيرها.
ولما كان سوقها وبلوغ الأماكن الشاسعة عليها في أقرب مدة لنيل الأمور الهائلة عظيم الجدوى جدًّا، نبه على عظمته بقطعه عما قبله بإجمال المنافع ثم تفصيله منه فقال: {ولتبلغوا} أي مستعلين {عليها} وهي في غاية الذل والطواعية، ونبههم على نقصهم وعظيم نعمته عليهم بقوله: {حاجة} أي جنس الحاجة.
ولما كان في مقام التعظيم لنعمه لأن من سياق الامتنان وإظهار القدرة وحدها وجمع ما تضمر فيه فقال: {في صدوركم} إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حنى فاضت منها فملأت مساكنها.
ولما كان الحمل يكون مع مطلق الاستعلاء سواء كان على أعلى الشيء أولًا بخلاف الركوب، قال معبرًا بأداة الاستعلاء فيها وفي الفلك غير سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، فإنهاكانت مغطاة كما حكي فكانوا في بطنها لا على ظهرها: {وعليها} أي في البر {وعلى الفلك} أي في البحر {تحملون} أي تحمل لكم أمتعتكم فإن حمل الإنسان نفسه تقدم بالركوب.
وأشار بالنباء للمفعول أنه سخر ذلك تسخيرًا عظيمًا لا يحتاج معه إلى علاج في نفس الحمل.
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها سبحانه مشتملة على آيات كثيرة، عبر فيها بالماضي وعطف بالمضارع تنبيهًا على ما تقديره: فأراكم هذه الآيات البينات منها، قوله: {ويريكم} أي في لحظة {آياته} أي الكثيرة الكبيرة فيها وفي غيرها من أنفكسم ومن الآفاق، ودل على كثرة الآيات وعظمتها بإسقاط تاء التأنيث كما هو المستفيض في غير النداء بإظهار الاسم الأعظم في قوله: {فأيّ آيات الله} أي المحيط بصفات الكمال {تنكرون} حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته التي من أوضحها البعث. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقُصُّ عَلَيْكَ} والمعنى أنه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: أنت كالرسل من قبلك، وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين، وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه فيها وكذبوه فيها وجرى عليهم من الهم ما يقارب ما جرى عليك فصبروا، وكانوا أبدًا يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل العناد والتعنت، ثم إن الله تعالى لما علم أن الصلاح في إظهار ما أظهره، وإلا لم يظهره ولم يكن ذلك قادحًا في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحًا، لا جرم ما أظهرناها، وهذا هو المراد من قوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} ثم قال: {فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله قُضِىَ بالحق} وهذا وعيد ورد عقيب اقتراح الآيات {وَأَمَرُّ الله} القيامة {والمبطلون} هم المعاندون الذين يجادلون في آيات الله، ويقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)} اعلم أنه تعالى لما أطنب في تقرير الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعامًا على العباد، قال الزجاج الإبل خاصة، وقال القاضي هي الأزواج الثمانية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أنه لم أدخل لام الغرض على قوله: {لتركبوا} وعلى قوله: {لتبلغوا} ولم يدخل على البواقي فما السبب فيه؟ الجواب: قال صاحب الكشاف الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجبًا أو مندوبًا، فهذان القسمان أغراض دينية فلا جرم أدخل عليهما حرف التعليل، وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباحات، فلا جرم ما أدخل عليها حرف التعليل، نظيره قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] فأدخل التعليل على الركوب ولم يدخله على الزنية.
السؤال الثاني: قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} معناه تحملون في البر والبحر إذا عرفت هذا فنقول: لم لم يقل وفي الفلك كما قال: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] والجواب: أن كلمة على للاستعلاء فالشيء الذي يوضع في الفلك كما يصح أن يقال وضع فيه يصح أن يقال وضع عليه، ولما صح الوجهان كانت لفظة على أولى حتى يتم المراد في قوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} ولما ذكر الله هذه الدلائل الكثيرة قال: {وَيُرِيكُمْ آياته فَأَىَّ ءايات الله تنكرون} يعني أن هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة، فقوله: {فَأَىَّ ءايات الله تنكرون} تنبيه على أنه ليس في شيء من الدلائل التي تقدم ذكرها ما يمكن إنكاره، قل صاحب الكشاف قوله: {فَأَىُّ آيات الله} جاء على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحوحمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ} عزّاه أيضًا بما لقيت الرسل من قبله.
{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوا من قومهم.
{وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ} أي من قبل نفسه {إِلاَّ بِإِذْنِ الله فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ الله} أي إذا جاء الوقت المسمى لعذابهم أهلكهم الله، وإنما التأخير لإسلام من علم الله إسلامه منهم، ولمن في أصلابهم من المؤمنين.
وقيل: أشار بهذا إلى القتل ببدر.
{قُضِيَ بالحق وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} أي الذين يتبعون الباطل والشرك.
قوله تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام} قال أبو إسحاق الزجاج: الأنعام هاهنا الإبل.
{لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فاحتج من منع من أكل الخيل وأباح أكل الجمال بأنّ الله عز وجل قال في الأنعام: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وقال في الخيل: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] ولم يذكر إباحة أكلها.
وقد مضى هذا في النحل مستوفى.
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} في الوبر والصوف والشعر واللبن والزبد والسمن والجبن وغير ذلك.
{وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي تحمل الأثقال والأسفار.
وقد مضى في النحل بيان هذا كله فلا معنى لإعادته.
ثم قال: {وَعَلَيْهَا} يعني الأنعام في البر {وَعَلَى الفلك} في البحر {تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي آياته الدالة على وحدانيته وقدرته فيما ذكر.
{فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ} نصب أيا ب {تنكرون} لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله، ولو كان مع الفعل هاء لكان الاختيار في {أيّ} الرفع؛ ولو كان الاستفهام بألف أو هل وكان بعدهما اسم بعده فعل معه هاء لكان الاختيار النصب، أي إذا كنتم لا تنكرون أن هذه الأشياء من الله فلم تنكرون قدرته على البعث والنشر. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا} ذوي خطر وكثرة {مِن قَبْلِكَ} من قبل إرسالك.
{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا} أوردنا أخبارهم وآثارهم {عَلَيْكَ} كنوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام.
{وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} وهم أكثر الرسل عليهم الصلاة والسلام، أخرج الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جمًا غفيرًا والظاهر أن المراد بالرسول في الآية ما هو أخص من النبي، وربما يوهم صنيع القاضي أن المراد به ما هو مساو للنبي.
وأيًّا ما كان لا دلالة في الآية على عدم علمه صلى الله عليه وسلم بعدد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما توهم بعض الناس، ورد لذلك خبر الإمام أحمد وجرى بيننا وبينه من النزع ما جرى، وذلك لأن المنفي القص وقد علمت معناه فلا يلزم من نفي ذلك نفي ذكر أسمائهم، ولو سلم فلا يلزم من نفى ذكر الأسماء نفى ذكر أن عدتهم كذا من غير تعرض لذكر أسمائهم، على أن النفي بلم وهي على الصحيح تقلب المضارع ماضيًا فالمنفي القص في الماضي ولا يلزم من ذلك استمرار النفي فيجوز أن يكون قد قصوا عليه عليه الصلاة والسلام جميعًا بعد ذلك ولم ينزل ذلك قرآنًا، وأظهر من ذلك في الدلالة على عدم استمرار النفي قوله تعالى: {رُسُلًا قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} لتبادر الذهن فيه إلى أن المراد لم نقصصهم عليك من قبل لمكان {قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} [النساء: 164] وبالجملة الاستدلال بالآية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم عدة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا علمها بعد جهل عظيم بل خذلان جسيم نعوذ بالله تعالى من ذلك، وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} قال: بعث الله تعالى عبدًا حبشيًا نبيًا فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس بلفظ إن الله تعالى بعث نبيًا أسود في الحبش فهو ممن لم يقصص عليه عليه الصلاة والسلام والمراد بذلك على نحو ما مر أنه لم تذكر له صلى الله عليه وسلم قصصه وآثاره ولا أوردت عليه أحواله وأخباره كما كان في شأن موسى وعيسى وغيرهما من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقال: المراد أنه لم يذكر له صلى الله عليه وسلم بعثة شخص موصوف بذلك إذ لا يساعد عليه اللفظ، وأيضًا لو أريد ما ذكر فمن أين علم علي كرم الله تعالى وجهه أو ابن عباس ذلك وهل يقول باب مدينة العلم على علم لم يفض عليه من تلك المدينة حاشاه ثم حاشاه وكذا ابن عمه العباس عبد الله.
واستشكل هذا الخبر بأن فيه رسالة العبد وقد قالوا العبد لا يكون رسولًا، وأجيب بأن العبد فيه ليس بمعنى المملوك وهو الذي لا يكون رسولًا لنقصان تصرفه ونفرة النفوس عن اتباعه بل هو أحد العبيد بمعنى السودان عرفًا ولو قيل: إن العبد بهذا المعنى لا يكون رسولًا أيضًا لنفرة النفوس عن اتباعه كنفرتها عن اتباع المملوك قلنا: على تقدير تسليم النفرة إنما هي فيما إذا كان الإرسال لغير السودان وأما إذا كان الإرسال للسودان فليست هناك نفرة أصلاف، وظاهر لفظ ابن عباس أن ذلك الأسود إنما بعث في الحبش والتزام أنه لا يكون رسول من السودان أولاد حام مما لا يساعد عليه الدليل لأنه إن كانت النفرة مانعة من الإرسال فهي لا تتحقق فيما إذا كان الإرسال إلى بني صنفه؛ وإن كان المانع أنه لا يوجد متأهر للإرسال في بني حام لنقصان عقولهم وقلة كما لهم فدعوى ذلك جهل والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وكم رأينا في أبناء حام من هو أعقل وأكمل من كثير من أبناء سام ويافث، وإن كان قد ورد فأطع من نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا يكون من أولئك رسول فليذكر وأنى به ثم إن أمر النبوة فيمن ذكر أهون من أمر الرسالة كما لا يخفى، وكأنه لمجموع ما ذكرنا قال الخفاجي عليه الرحمة: في صحة الخبر نظر {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} أي وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا} بمعجزة {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فالمعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها {فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله} بالعذاب في الدنيا والآخرة {قُضِىَ بالحق} بإنجاء المحق وإثابته وإهلاك المبطل وتعذيبه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ} أي وقت مجىء أمر الله تعالى اسم كان استعير للزمان {المبطلون} المتمسكون بالباطل على الإطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولًا أوليًّا ومن المفسرين من فسر المبطلين بهم وفسر أمر الله بالقيامة، ومنهم من فسره بالقتل يوم بدر وما ذكرنا أولى.